حزينة يا مصر

الاثنين، 26 أبريل 2010

«شىء من الخوف».. لا يضر.
وقفت «فؤادة» أمام الهويس وهى فى ذروة لياقتها وكبريائها: الجلباب أكثر سواداً من بياض الكفن، والحردة مقموطة على الرأس كأفقُ منضبط، ينطوى على سر قديم: «يا عينى يا عينى.. يا عينى ع الولد»، وينفتح على بحر الوجه عبر برزخ زلق بين حاجبين مهذبين قوستهما يد الله بأريحية. مسحت الأفق بعينين مكحلتين تلمعان بالعناد والأمل، وكان الفلاحون ملتصقين بجلد الأرض كـ«عروش بطيخ» ضربتها صفرة الموت من شدة الحزن والعطش وقلة الحيلة.
أدارت «فؤادة» عجلة الهويس فـ«كز» الحديد على الحديد، ففتحت الأرض شقوقها لتسمع. تدفق الصوت ماءً عكراً، وتململ الكون، ورفعت «عروش البطيخ» الذابلة ثمارها.. واحمرت «الدهاشنة»: انطلقت رصاصة من كتاب تاريخ دسه «عتريس» فى سحارة ملابس فؤادة يوم أخذها من أهلها على سنته.. وعلى الصداق المسمى بينهما: «محمود». مات «محمود» مغدوراً قبل أن يدخل على عروسه، وكانت ذقن «الشيخ إبراهيم» ترتعش غلاً ومكراً وهو يحمل جثة ابنه، متصدراً مسيرة مشاعل حاصرت قصر عتريس وأحرقته وهو فى داخله: «الجوازة باطلة».
أحرقت «الدهاشنة» طاغيتها بعد أن «تعبت فيه» وتعودت عليه. كان يزحف على جلد أهلها كالحشائش المخدرة.. بينما ينتظرون ظهور «المخلص». وعندما بدأ يحرق زرعهم، ويقتل ماشيتهم، ويسمم الدم الذى يجرى فى عروقهم.. لم يحركوا ساكناً، لكنهم سألوه وهم يرتعشون وقاراً وخوفاً: ما الذى فرعنك؟.. فأجاب: علمتنى فؤادة أن الحب حمامة بيضاء.. وعلمنى جدى كيف أذبحها.
كان أهل الدهاشنة قد أصبحوا «مغيبين»، عاجزين، حتى إنهم لم يجرؤوا على حرق عتريس «وجهاً لوجه»، بل حبسوه فى قصره و«رجموه» بالمشاعل، ثم وقفوا يتفرجون على نصفه الكاريزمى وهو يلمع فى رماد نصفه الشرير كقطعة نقود نادرة وأصيلة... ومن الذى حرضهم وحركهم وركب مأساتهم؟.. «الشيخ إبراهيم» بنصفيه المقابلين: نصفه «النخبوى».. الجالس دوماً على دكة فى أول الطريق إلى كل ثورة، ونصفه «المواطن».. إذ يقيم الحد على أصحاب هذه الثورة الحقيقيين.. ما لم يحصل على حصة الله من الغنيمة.
لا «فؤادة» كانت «مصر»، ولا «عتريس» كان «عبدالناصر»، ولا زواجهما كان ثورة يوليو: هل هذا صحيح؟.. أشك. هل تصدق أن أهل الدهاشنة كانوا - بحق - ثواراً، وأن «الشيخ إبراهيم» كان - فقط - ينتقم لابنه المغدور؟.
اخرج من الرواية والفيلم وأنت تعرف.
انهزم «عتريس» بعد أن تخلى عنه رجال «مجلسه العصابى» واحداً تلو الآخر. وعندما تأكد لهم أن النار مصمصته عادوا ليستولوا على شرعيته، وعلى خزائن أسراره، وعلى شعرة الدم التى تربطه بالشيخ إبراهيم.
و«فؤادة» تعاقب عليها «عتريسان» آخران، لا شرهما حقيقى، ولا كاريزمتهما حقيقية، لكنهما أنهكاها قمعاً وإهمالاً، وتحولت على أيديهما من «كبيرة مسموعة» إلى شمطاء لا تسمع ولا ترى: تجوع فتأكل من لحم أبنائها، وتشبع فتبول فى كوز الماء وطبق الفول، وإذا دخل حضرتها غريب أو قريب.. مصمص وتمتم بقليل من الأسى وكثير من الشماتة: «قلنا ح نبنى.. وآدى احنا بنينا السد العالى».
ابتعد أكثر:
لابد أن الشيخ إبراهيم دفن جثة ابنه المغدور فى حديقة قصر عتريس ليكون أقرب إلى «الغنيمة» من «النص»، لكنه التفت فلم ير أحداً: انطفأت مشاعل الثورة، وأغلقت الدهاشنة أبوابها ونامت ريثما يأتى «مخلص» جديد، فأعلن أن «محمود» أصبح «شهيداً». ورفع أذان الفجر فتحول القبر إلى زاوية للصلاة.
وتدفق المعزون من كل فجاج الدهاشنة، فأصبحوا - على اختلاف أغراضهم وأدوارهم - «إخواناً»، وميزوا أنفسهم عن غيرهم بكونهم «مسلمين»!. ثم وضعوا على غطاء النعش «مصحفاً وسيفاً»، وأقسموا أن يكون سعيهم وراء متع الدنيا «جهاداً»: يد تقبض على الغنيمة.. والأخرى ترفع النص. هكذا.. اتسعت زاوية الصلاة لتصبح معسكراً للتدريب، ثم نادياً للشبان، ثم مستوصفاً، ثم جمعية أرامل وأيتام، ثم مركزاً تجارياً، ثم شركة توظيف، ثم محطة فضائية، وأخيراً.. مقاعد فى البرلمان.

الآن..

مضت أربعون عاماً على «غياب» عتريس، فانظر ماذا ترى: تسللت إلى القصر طغمة فاسدة، أسوأ ما فى فسادها أنها لم تعد تشعر به، وتناثرت «دكاكين المعارضة» فى أرجاء حديقته। عمائم وطرابيش وربطات عنق أنيقة. وعاظ هواء ومثقفو مكاتب مكيفة وكلاب سلطة. تجار سلام ودعاة قتل «محصنون» وسماسرة أراضى دولة॥ ووراء سور القصر تنام الدهاشنة على رصيف حزنها: «الجوازة باطلة»، وتترحم على «شر» عتريس... و«كاريزمته».


بقلم محمود الكردوسى المصرى اليوم ٢٦/ ٤/ ٢٠١٠

2 comments:

Tears يقول...

كل عتريس ظالم

حان الوقت ان فؤاده تفوق و تبطل انهزام و سلبيه

حان الوقت انها تفضل ان تموت بكرامتها و هى بدافع عن عرضها بدل ما تعيش ميته

اهل الدهاشنة لازم يفهموا ان دى الفرصة الاخيرة يا يحطوا ايديهم فى ايدين بعض عشان يقضوا على الاشرار و المنافقين و المنتفعين يا ح تفضل رأسهم فى الطين و مش بعيد ارضهم تتاخد بعد ما اتنهب نبتها و خيرها

Elmasryeffendi يقول...

عزيزتى تيرز
هى ارضهم دى اللى مخوفانى قوى و حاسس ان الدهاشنة بتروح منها فيها بس يمكن برضه هى اللى هاتحلى الاحرار يفوقوا و ينتفضوا و يعرفوا ان عتريس و رجالته ما حافظوش عليها، يا رب التغيير يحصل بقى لانها خلاص ضاقت و استحكمت حلقاتها

تحياتى

إرسال تعليق