احتار الناس فى تكييف وتوصيف ما حدث فى ليلة ٢٣ يوليو، فقال بعضهم إنها ثورة، ولكن أصحاب هذه الليلة استنكروا ذلك بشدة وأوعزوا إلى الصحف بعدم استعمالها، وقال آخرون إنها انقلاب عسكرى، ولكن هذا ضايق ضباط يوليو وغضبوا على من استخدمه حتى اهتدوا إلى تعبير «حركة» وجاءهم ابن الحلال بصفة «المباركة» فارتاحوا وأصبحت فى الأيام الأولى لها «الحركة المباركة».
الحقيقة أنها لم تكن ثورة.. أو انقلابا.. أو حركة .. ولكن سرقة السلطة تحت جنح الظلام؟
يحدث للمجتمعات فى ساعات محنتها أن يظهر شخص قوى يستغل العمال ويستعبد الفلاحين ويخدع الحكومة، وبهذه الطرق يحصل على ثروة ضخمة ويكسب شهرة مدوية تغطى على أعماله القذرة، ولما كان يعرف حقيقة أعمـاله، فإنه وضع ثروته فى قلعـة حصينة بأقفـال حديدية، ومزودة بحرس شديد يحرسها ويحميها ليل نهار، والناس يتحسرون كلما يمرون بها لأنهم يرون ثرواتهم المسروقة، ولا يملكون شيئاً، فالحرس شديد والرجل على موبقاته يظفر بالشرعية القانونية، فلا يمكن العمل بإجراءات مشروعة مقاضاته، ولا يمكن بهجوم مسلح التغلب عليه.
فى مثل هذه الحالات يظهر شخص ذكى، جرىء، طموح يعلم أن ما لا يمكن نيله بالطرق المشروعة يمكن نيله بالدهاء والخداع وبالطرق غير المشروعة، وأن ما لا يمكن الجهر به من العمل يمكن أن يؤدى سرًا وتحت جنح الظلام.
ويحكم هذا الرجل خطته، ويدهم القلعة تحت جنح الظلام ويخدع الحراس ويضع يده على الثروة.
عندما يحدث هذا فإن الجمهور يصفق لهــذا الرجل الذى سرق السارق، وخدع الخادع، وتوصل إلى ما عجزوا عنه، خاصة عندما يعطى الفقــراء ما سرقه الأغنياء ويصبح «روبين هود».
وظهرت بين صفحات ألف ليلة وليلة فى تلك الأيام، المجهولة التى يلف تاريخها الظلام، ويصبح «العياريون» هم القوة الوحيدة التى تقف للوزراء والتجار وتسطو على ثرواتهم.
تحدثنا ألف ليلة وليلة عن العجوز الداهية التى قررت أن تستحوذ على ثروة أحد «مصاصى الدماء» الذين أودعوا أموالهم فى قلعة يحيطها بالحراس الأشداء، فقد ملأت ثلاث «قرب» كبيرة من أجود الخمر وحملتها على حمارها وسارت تتوكأ على عصا، فلما أصبحت أمام القلعة فتحت بحركة خفيفة أفواه القرب فبدأت الخمر تنسكب على الأرض، وصاحت العجوز بالحرس «الحقونى» الخمر انسكبت على الأرض، وأسرع الحرس إليها وفى أيديهم ما قدروا عليه من آنيــة بحيث أفرغوا القــرب الثلاث فيها وصرفوا العجوز بغلظة، وأبوا بغنيمتهم وعكفوا على الشراب حتى تملكهم الذهول وغطوا فى نوم عميق، وعندئذ عادت العجوز الذكية، ومعها أعوانها وفتحت الأبواب المغلقة واستحوذت على الثروة.
شىء كهذا كان المسرح المصرى مهيأً له قبيل ٢٣ يوليو فهناك ملك فاقد الموهبة وصفات القيادة، استحوذ عليه القمار والنساء، والارتشاء وأحاطت به بطانة ساقطة تزيده خبالاً ووزراء متشاكسون هدفهم الوحيد السلطة، وأحزابهم بلا جمهور حتى حزب الوفد الذى تآكلت شعبيته بعد مرور ثلاثين عامًا وأصبح هدفه الوحيد الوصول إلى الحكم بعد أن حرمته مؤامرات أحزاب الأقلية ذلك .
جيش أقسم يمين الولاء للملك القائد الأعلى، الذى يمثل الشرعية التى هى قوام العسكرية، ويعد أى مساس به مساساً بأولى قواعد العسكرية . شعب أعزل مسكين لا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلاً.
أذكر شخصياً هذه الأيام جيدًا، كنا نقول إن الجيش هو القوة الوحيدة التى يمكن أن تتحرك، ولكن الجيش فى يد «حيدر» وحيدر هو رجل الملك.
فى هذا المناخ ظهر رجل ذكى شديد الذكاء يتملكه طموح لا حد له ولا تنقصه الجرأة والإقدام، ولكن أهم من كل هذا أنه كان متآمراً بالطبيعة والفطرة، كأنما لم يخلق من لحم ودم ولكن من مادة التآمر نفسها وكان فيه كل ما يتطلبه التآمر من ذكاء ودهاء وحذر وكتمان.
استطاع هذا الرجل أن يستقطب مجموعة محدودة من الضباط وتعرف على كل الهيئات: الإخوان، الشيوعيين، الوفديين، مصر الفتاة، ولم يكن الرجل ولا معظم مجموعته محرومًا من المشاعر الوطنية فقد كان «الإصلاح» هو الهدف الذى تكونت فى ظله وبفضله المجموعة، وكان اليقين لديهم أنهم ما إن يسيطروا حتى يصلحوا.
وكانت هناك مجموعات عسكرية عديدة بعضها أفضل من مجموعته، ولكنه هو وحده الذى توفرت فيه صفات القيادة المطلوبة لمثل هذا العمل.
وتوصل إلى اكتساب تأييد قرابة خمسين أو ستين ضابطا معظمهم من الرتب الصغيرة وأعلاهم من كان حائزاً لرتبة البكباشى، أو القائمقام.
أحكم الرجل خطته، وفى ظلام ٢٣ يوليو، والملك والوزارة وكبار القادة فى المصيف هاجم القيادة واستحوذ على السلطة.
وكان احتمال كشف الحركة، رغم كل ذلك، واردًا، بل كشفت بالفعل فى الساعات الأخيرة لها، ولكنها رزقت عوامل استثنائية كفلت لها النجاح فى النهاية وبعض هذه العوامل يعود إلى ذكاء ودهاء مدبرها، ولكن البعض الآخر مما ليس له فيه نصيب.
فقد كانت هناك مجموعات عسكرية سبقت تنظيم عبدالناصر ولكن عبدالناصر كان قد أحكم صلته بالإخوان وتعاون عمليًا معهم وكسب ثقة رئيس التنظيم العسكرى الإخوانى الصاغ محمود لبيب، وخدعه أيضا، وكان ينافسه فى زعامة التنظيم الضابط الإخوانى عبدالمنعم عبدالرؤوف، وعندما مرض محمود لبيب مرض الموت، لم يكن عبدالمنعم عبدالرؤوف فى القاهرة ولازمه حتى الوفاة جمال عبدالناصر وأخذ منه كشوف أسماء الضباط الإخوان، بل والاشتراكات أيضًا، وكانت وصية محمود لبيب رحمه الله ألا يختلف عبدالمنعم رؤوف مع جمال عبدالناصر، فهما فرسا رهان، ولكن الحقيقة أن عبدالناصر كان لديه من الذكاء والدهاء أضعاف أضعاف ما لدى عبدالمنعم عبدالرؤوف.
وكان هناك عامل شعبى ساعده، قد لا يلم به إلا المؤرخون، إن النظم التى تكون مهيأة بحكم فسادها وتدهورها للسقوط لا تحتاج إلى ما هو أكثر من ضربة، وفى روسيا كانت طلقتان من البارجة «أورورا» كافية لبث الذعر فى وزارة كرنسكى التى لم يكن يدافع عنها سوى فرقة من المجندات، وتحدث لينين عن سقوط القيصرية كورقة شجرة أذرتها رياح الثورة، ولو كان لدى فاروق حمية وإرادة لوقف ضد هذه المجموعة الضئيلة التى سطت على القيادة بمحض المصادفة ولاعتصم بمعسكرات الجيش بالإسكندرية، ولكنه كان ملكًا منهارًا يمثل نظامًا منهارًا، وما كاد يطمئن على أنه سينجو بجلده وثروته حتى وقع بيان التنازل لـ«ابنه».
وكان من المصادفات التى أدت إلى نجاح الحركة أن رئيس الأركان الفريق حسين فريد عندما علم نبأ الحركة، فإنه بدلاً من أن يأمر بتحريك أى لواء أو سلاح أو كتيبة فإنه قرر أن يذهب إلى مبنى القيادة فى الوقت الذى كان فيه الضابط يوسف صديق يتحرك قبل الميعاد المحدد له بساعة ليلتقى برئيس الأركان وبعض ضباطه قبل أن يعملوا شيئاً فاعتقلهم جميعاً .
وأهم من هذا كله أن اللواء محمد نجيب قبل أن يكون على رأس الحركة، وهو ضابط فيه كل ما ينقص عبدالناصر بالضبط، فيه البشاشة والطيبة والصراحة وحسن الخلق وأكسبته شجاعته أيام فلسطين الاحترام، بحيث أصبح رئيس نادى الضباط، وحال هذا دون أن يثور الضباط على الحركة، ولو كان رئيسها المعلن هو عبدالناصر لثاروا عليه، فعبدالناصر بكباشى مغمور قد يوجد ثلاثمائة بكباشى مثله فى الجيش.
فى صباح يوم ٢٤ يوليو عندما استيقظ المصريون على نبأ الحركة يتلوه الضابط السادات ممهورًا بتوقيع اللواء أركان حرب محمد نجيب صفق الشعب المصرى، كما صفق جمهور إنجلترا لروبين هود «اللص الشريف».
وادخر شعب مصر تصفيقته الكبرى عندما يبدأ عبدالناصر فى إعادة السلطة إلى الشعب.
ولكن عبدالناصر على عكس روبين هود لم يفعل.
وفى مارس ١٩٥٤م ضرب عبدالناصر عرض الحائط بآراء الجماهير وقياداتها التى كانت تريد أن يعود الجيش إلى الثكنات بعد أن قام بحركته وقضى على الملكية.
ضرب عبدالناصر عرض الحائط برئيس الثورة ورئيس الجمهورية، والرجل الذى أحبه شعب مصر من النظرة الأولى محمد نجيب.
وقضى مع القضاء على محمد نجيب على علاقة مصر مع السودان.
وقضى على سلاح الفرسان روح الحركة.
وكان قد قضى من قبل على فرسان الحركة وأبطالها يوسف صديق وأحمد شوقى وعبدالمنعم أمين الذين كانت قواتهم هى التى تحركت وهى التى استحوذت على السلطة.
وقضى على الإخوان المسلمين، وقضى على الأحزاب وأولها الوفد، وقضى على الشيوعيين واليساريين. وقضى على النقابتين اللتين مثلتا الرأى العام، نقابة الصحفيين ونقابة المحامين، وكان من قبل شنق خميس والبقرى أيام إضراب عمال كفر الدوار فأشاع الرعب فى الحركة النقابية العمالية، ثم استلحقها. وقضى على هيئات التدريس بالجامعات واستبعد القضاة بعد أن أشبع مفخرة القانون والقضاء «السنهورى» ضربًا وركلاً وهتف أتباعه: «فلتسقط الحرية».
وكان من دهاء عبدالناصر وتمكن الطبيعة التآمرية منه أنه عزل من قيادات الجيش بمجرد أن استتب له الأمر كل الضباط العظام من درجة قائمقام فما فوق، ثم وضع على رأسه صديقه الحميم وتوأم روحه عبدالحكيم عامر الذى قام بالمهمة المطلوبة فكبح جماح أى بادرة لانقلاب وضمن تأييد الجيش له.
لم تكن ٢٣ يوليو ثورة، أو انقلابًا، لكن سطوًا على السلطة تحت جنح الظلام
الحقيقة أنها لم تكن ثورة.. أو انقلابا.. أو حركة .. ولكن سرقة السلطة تحت جنح الظلام؟
يحدث للمجتمعات فى ساعات محنتها أن يظهر شخص قوى يستغل العمال ويستعبد الفلاحين ويخدع الحكومة، وبهذه الطرق يحصل على ثروة ضخمة ويكسب شهرة مدوية تغطى على أعماله القذرة، ولما كان يعرف حقيقة أعمـاله، فإنه وضع ثروته فى قلعـة حصينة بأقفـال حديدية، ومزودة بحرس شديد يحرسها ويحميها ليل نهار، والناس يتحسرون كلما يمرون بها لأنهم يرون ثرواتهم المسروقة، ولا يملكون شيئاً، فالحرس شديد والرجل على موبقاته يظفر بالشرعية القانونية، فلا يمكن العمل بإجراءات مشروعة مقاضاته، ولا يمكن بهجوم مسلح التغلب عليه.
فى مثل هذه الحالات يظهر شخص ذكى، جرىء، طموح يعلم أن ما لا يمكن نيله بالطرق المشروعة يمكن نيله بالدهاء والخداع وبالطرق غير المشروعة، وأن ما لا يمكن الجهر به من العمل يمكن أن يؤدى سرًا وتحت جنح الظلام.
ويحكم هذا الرجل خطته، ويدهم القلعة تحت جنح الظلام ويخدع الحراس ويضع يده على الثروة.
عندما يحدث هذا فإن الجمهور يصفق لهــذا الرجل الذى سرق السارق، وخدع الخادع، وتوصل إلى ما عجزوا عنه، خاصة عندما يعطى الفقــراء ما سرقه الأغنياء ويصبح «روبين هود».
وظهرت بين صفحات ألف ليلة وليلة فى تلك الأيام، المجهولة التى يلف تاريخها الظلام، ويصبح «العياريون» هم القوة الوحيدة التى تقف للوزراء والتجار وتسطو على ثرواتهم.
تحدثنا ألف ليلة وليلة عن العجوز الداهية التى قررت أن تستحوذ على ثروة أحد «مصاصى الدماء» الذين أودعوا أموالهم فى قلعة يحيطها بالحراس الأشداء، فقد ملأت ثلاث «قرب» كبيرة من أجود الخمر وحملتها على حمارها وسارت تتوكأ على عصا، فلما أصبحت أمام القلعة فتحت بحركة خفيفة أفواه القرب فبدأت الخمر تنسكب على الأرض، وصاحت العجوز بالحرس «الحقونى» الخمر انسكبت على الأرض، وأسرع الحرس إليها وفى أيديهم ما قدروا عليه من آنيــة بحيث أفرغوا القــرب الثلاث فيها وصرفوا العجوز بغلظة، وأبوا بغنيمتهم وعكفوا على الشراب حتى تملكهم الذهول وغطوا فى نوم عميق، وعندئذ عادت العجوز الذكية، ومعها أعوانها وفتحت الأبواب المغلقة واستحوذت على الثروة.
شىء كهذا كان المسرح المصرى مهيأً له قبيل ٢٣ يوليو فهناك ملك فاقد الموهبة وصفات القيادة، استحوذ عليه القمار والنساء، والارتشاء وأحاطت به بطانة ساقطة تزيده خبالاً ووزراء متشاكسون هدفهم الوحيد السلطة، وأحزابهم بلا جمهور حتى حزب الوفد الذى تآكلت شعبيته بعد مرور ثلاثين عامًا وأصبح هدفه الوحيد الوصول إلى الحكم بعد أن حرمته مؤامرات أحزاب الأقلية ذلك .
جيش أقسم يمين الولاء للملك القائد الأعلى، الذى يمثل الشرعية التى هى قوام العسكرية، ويعد أى مساس به مساساً بأولى قواعد العسكرية . شعب أعزل مسكين لا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلاً.
أذكر شخصياً هذه الأيام جيدًا، كنا نقول إن الجيش هو القوة الوحيدة التى يمكن أن تتحرك، ولكن الجيش فى يد «حيدر» وحيدر هو رجل الملك.
فى هذا المناخ ظهر رجل ذكى شديد الذكاء يتملكه طموح لا حد له ولا تنقصه الجرأة والإقدام، ولكن أهم من كل هذا أنه كان متآمراً بالطبيعة والفطرة، كأنما لم يخلق من لحم ودم ولكن من مادة التآمر نفسها وكان فيه كل ما يتطلبه التآمر من ذكاء ودهاء وحذر وكتمان.
استطاع هذا الرجل أن يستقطب مجموعة محدودة من الضباط وتعرف على كل الهيئات: الإخوان، الشيوعيين، الوفديين، مصر الفتاة، ولم يكن الرجل ولا معظم مجموعته محرومًا من المشاعر الوطنية فقد كان «الإصلاح» هو الهدف الذى تكونت فى ظله وبفضله المجموعة، وكان اليقين لديهم أنهم ما إن يسيطروا حتى يصلحوا.
وكانت هناك مجموعات عسكرية عديدة بعضها أفضل من مجموعته، ولكنه هو وحده الذى توفرت فيه صفات القيادة المطلوبة لمثل هذا العمل.
وتوصل إلى اكتساب تأييد قرابة خمسين أو ستين ضابطا معظمهم من الرتب الصغيرة وأعلاهم من كان حائزاً لرتبة البكباشى، أو القائمقام.
أحكم الرجل خطته، وفى ظلام ٢٣ يوليو، والملك والوزارة وكبار القادة فى المصيف هاجم القيادة واستحوذ على السلطة.
وكان احتمال كشف الحركة، رغم كل ذلك، واردًا، بل كشفت بالفعل فى الساعات الأخيرة لها، ولكنها رزقت عوامل استثنائية كفلت لها النجاح فى النهاية وبعض هذه العوامل يعود إلى ذكاء ودهاء مدبرها، ولكن البعض الآخر مما ليس له فيه نصيب.
فقد كانت هناك مجموعات عسكرية سبقت تنظيم عبدالناصر ولكن عبدالناصر كان قد أحكم صلته بالإخوان وتعاون عمليًا معهم وكسب ثقة رئيس التنظيم العسكرى الإخوانى الصاغ محمود لبيب، وخدعه أيضا، وكان ينافسه فى زعامة التنظيم الضابط الإخوانى عبدالمنعم عبدالرؤوف، وعندما مرض محمود لبيب مرض الموت، لم يكن عبدالمنعم عبدالرؤوف فى القاهرة ولازمه حتى الوفاة جمال عبدالناصر وأخذ منه كشوف أسماء الضباط الإخوان، بل والاشتراكات أيضًا، وكانت وصية محمود لبيب رحمه الله ألا يختلف عبدالمنعم رؤوف مع جمال عبدالناصر، فهما فرسا رهان، ولكن الحقيقة أن عبدالناصر كان لديه من الذكاء والدهاء أضعاف أضعاف ما لدى عبدالمنعم عبدالرؤوف.
وكان هناك عامل شعبى ساعده، قد لا يلم به إلا المؤرخون، إن النظم التى تكون مهيأة بحكم فسادها وتدهورها للسقوط لا تحتاج إلى ما هو أكثر من ضربة، وفى روسيا كانت طلقتان من البارجة «أورورا» كافية لبث الذعر فى وزارة كرنسكى التى لم يكن يدافع عنها سوى فرقة من المجندات، وتحدث لينين عن سقوط القيصرية كورقة شجرة أذرتها رياح الثورة، ولو كان لدى فاروق حمية وإرادة لوقف ضد هذه المجموعة الضئيلة التى سطت على القيادة بمحض المصادفة ولاعتصم بمعسكرات الجيش بالإسكندرية، ولكنه كان ملكًا منهارًا يمثل نظامًا منهارًا، وما كاد يطمئن على أنه سينجو بجلده وثروته حتى وقع بيان التنازل لـ«ابنه».
وكان من المصادفات التى أدت إلى نجاح الحركة أن رئيس الأركان الفريق حسين فريد عندما علم نبأ الحركة، فإنه بدلاً من أن يأمر بتحريك أى لواء أو سلاح أو كتيبة فإنه قرر أن يذهب إلى مبنى القيادة فى الوقت الذى كان فيه الضابط يوسف صديق يتحرك قبل الميعاد المحدد له بساعة ليلتقى برئيس الأركان وبعض ضباطه قبل أن يعملوا شيئاً فاعتقلهم جميعاً .
وأهم من هذا كله أن اللواء محمد نجيب قبل أن يكون على رأس الحركة، وهو ضابط فيه كل ما ينقص عبدالناصر بالضبط، فيه البشاشة والطيبة والصراحة وحسن الخلق وأكسبته شجاعته أيام فلسطين الاحترام، بحيث أصبح رئيس نادى الضباط، وحال هذا دون أن يثور الضباط على الحركة، ولو كان رئيسها المعلن هو عبدالناصر لثاروا عليه، فعبدالناصر بكباشى مغمور قد يوجد ثلاثمائة بكباشى مثله فى الجيش.
فى صباح يوم ٢٤ يوليو عندما استيقظ المصريون على نبأ الحركة يتلوه الضابط السادات ممهورًا بتوقيع اللواء أركان حرب محمد نجيب صفق الشعب المصرى، كما صفق جمهور إنجلترا لروبين هود «اللص الشريف».
وادخر شعب مصر تصفيقته الكبرى عندما يبدأ عبدالناصر فى إعادة السلطة إلى الشعب.
ولكن عبدالناصر على عكس روبين هود لم يفعل.
وفى مارس ١٩٥٤م ضرب عبدالناصر عرض الحائط بآراء الجماهير وقياداتها التى كانت تريد أن يعود الجيش إلى الثكنات بعد أن قام بحركته وقضى على الملكية.
ضرب عبدالناصر عرض الحائط برئيس الثورة ورئيس الجمهورية، والرجل الذى أحبه شعب مصر من النظرة الأولى محمد نجيب.
وقضى مع القضاء على محمد نجيب على علاقة مصر مع السودان.
وقضى على سلاح الفرسان روح الحركة.
وكان قد قضى من قبل على فرسان الحركة وأبطالها يوسف صديق وأحمد شوقى وعبدالمنعم أمين الذين كانت قواتهم هى التى تحركت وهى التى استحوذت على السلطة.
وقضى على الإخوان المسلمين، وقضى على الأحزاب وأولها الوفد، وقضى على الشيوعيين واليساريين. وقضى على النقابتين اللتين مثلتا الرأى العام، نقابة الصحفيين ونقابة المحامين، وكان من قبل شنق خميس والبقرى أيام إضراب عمال كفر الدوار فأشاع الرعب فى الحركة النقابية العمالية، ثم استلحقها. وقضى على هيئات التدريس بالجامعات واستبعد القضاة بعد أن أشبع مفخرة القانون والقضاء «السنهورى» ضربًا وركلاً وهتف أتباعه: «فلتسقط الحرية».
وكان من دهاء عبدالناصر وتمكن الطبيعة التآمرية منه أنه عزل من قيادات الجيش بمجرد أن استتب له الأمر كل الضباط العظام من درجة قائمقام فما فوق، ثم وضع على رأسه صديقه الحميم وتوأم روحه عبدالحكيم عامر الذى قام بالمهمة المطلوبة فكبح جماح أى بادرة لانقلاب وضمن تأييد الجيش له.
لم تكن ٢٣ يوليو ثورة، أو انقلابًا، لكن سطوًا على السلطة تحت جنح الظلام
جمال البنا ٢٨/ ٧/ ٢٠١٠ المصرى اليوم